لم تعد أرقام الخسائر الاقتصادية في إسرائيل مجرد تقديرات على الورق، بل باتت حقائق ثقيلة تتكشف مع مرور الوقت. فمنذ اندلاع الحرب في عام 2023 وحتى اليوم، تكبّد الاقتصاد خسائر مباشرة تجاوزت خمسة وخمسين مليار دولار، أي ما يعادل عشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفق البيانات الرسمية. ومع استمرار الأزمة وتصاعد المواجهات، يتوقع البنك المركزي الإسرائيلي أن تصل الكلفة إلى سبعةٍ وستين مليار دولار مع نهاية 2025، بينما تشير توقعات الخبراء إلى أن العقد المقبل قد يشهد خسائر أعمق قد تلامس أربعمئة مليار دولار، أغلبها نتيجة هروب الاستثمارات وتراجع الإنتاجية وتآكل ثقة الأسواق.
لم يكد الاقتصاد يلتقط أنفاسه بعد انكماش حاد بلغ أكثر من عشرين في المئة في الربع الأخير من 2023، حتى شهد انتعاشًا محدودًا بنسبة أربعة عشر في المئة في الربع الأول من 2024. غير أن هذا الانتعاش لم يدم طويلًا، إذ تباطأ النمو إلى أقل من واحد في المئة في الربع الثاني من العام ذاته. وجاءت المواجهة المباشرة مع إيران لتضيف عبئًا جديدًا، فأدخلت الاقتصاد في دائرة انكماش جديدة بلغت ثلاثة فاصلة خمسة في المئة خلال الربع الثاني من عام 2025، لتكشف الأرقام عن أثر مباشر لتراجع الإنفاق الاستهلاكي وضعف الاستثمارات وتقلص الصادرات.
وكان البنك المركزي قد وضع سيناريو متفائلًا بنمو يصل إلى واحد في المئة لعام 2024 وثلاثة فاصلة خمسة في المئة لعام 2025 إذا هدأت الأوضاع، لكن امتداد الحرب لأشهر إضافية يهدد هذه التوقعات ويخفض النمو المرتقب بنصف نقطة مئوية، مع ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي من تسعةٍ وستين إلى واحد وسبعين في المئة.
ولم تتوقف آثار الحرب عند حدود الأرقام السنوية، بل انعكست في تفاصيل الحياة اليومية. فغياب العاملين الذين تم استدعاؤهم للخدمة الاحتياطية كلّف الاقتصاد نحو ستمئة مليون دولار أسبوعيًا، أي ما يعادل ستة في المئة من الناتج الأسبوعي. كما أن تكلفة اعتراض الصواريخ بلغت أربعة ملايين دولار لكل عملية، ما يعني أن شهرًا كاملًا من المواجهات يستهلك ما يزيد على اثني عشر مليار دولار.
تراجعت معظم مؤشرات النشاط الاقتصادي. الإنفاق الاستهلاكي انخفض بنسبة سبعة وعشرين في المئة، الصادرات تراجعت ثمانية عشر في المئة، والواردات هبطت بنسبة اثنين وأربعين في المئة نتيجة اضطراب سلاسل الإمداد وضعف الثقة. في المقابل، ارتفعت النفقات العامة بنحو ثمانيةٍ وثمانين في المئة لتغطية التكاليف العسكرية وتبعاتها، فيما أغلق عشرات الآلاف من الشركات أبوابها، ليصل عددها بحلول يوليو 2024 إلى ستة وأربعين ألف شركة، من بينها ميناء إيلات الذي أعلن إفلاسه. وحتى سوق الأسهم لم يسلم، إذ فقد مؤشر TA-35 ما يقارب تسعة في المئة من قيمته، بينما هبط المؤشر العام خمسة عشر في المئة أمام الدولار.
أما ميزانية الدفاع فشهدت قفزة تاريخية؛ من ستين مليار شيكل عام 2023 إلى تسعةٍ وتسعين مليارًا في 2024، مع توقع وصولها إلى مئةٍ وثمانية عشر مليار شيكل في 2025، أي ضعف ما كانت عليه قبل الحرب. هذا الارتفاع انعكس مباشرة على الموازنة العامة، فارتفع العجز من أقل من اثنين في المئة من الناتج المحلي إلى ما بين خمسة وتسعة في المئة، بينما قفز الدين العام من نحو ستين في المئة إلى سبعين في المئة خلال العامين الأخيرين.
وهكذا يجد الاقتصاد الإسرائيلي نفسه اليوم أمام مفترق طرق. فالتعافي لم يعد مرهونًا بالأدوات الاقتصادية وحدها، بل يحتاج إلى استقرار سياسي ينهي النزيف المالي ويعيد الثقة إلى الأسواق. وحتى يتحقق ذلك، ستظل الأرقام الحمراء تتصدر المشهد، وسيبقى الاقتصاد تحت وطأة حرب تستنزف موارده وتؤخر أي أفق لتعافٍ حقيقي.